تسألني ياسمينا إبنتنا البالغة من العمر 4 سنوات: كيف أتيتُ إلى هذا العالم؟
أجيبها وأنا أنظر إليها بدهشة: أتيتِ إلى هدا العالم من خلال الحب.
نولد من خلال الحب الذي يبدأ من قلب الوالد ليصل إلى قلب الأم فيتغلغل إلى رحمها حيث تنبت بذرةَ صغيرة تنمو رويداَ رويداَ لتصبح جاهزة للخروج إلى الحياة.
فالروح تولد من الحب، تولد حرّة لتعيش حرّة.
نختار القدوم إلى هذا العالم لنتذكر يومياً بأننا حب وبأننا نور.
نختار المجيء هنا لنتعلّم أكثر عن الحب غير المشروط, الحب الذي يسمح لنا بالنمو بأمان واطمئنان وسعادة.
نتحدث يومياَ عن حق الطفل بالعيش برفاه، حقه بالتعلّم، بالطعام، باللعب وبالعيش في مكان آمن والتمتع بصحة جيدة وهذا أمر طبيعي وبديهي. لكن ما ننسى التشديد عليه والتذكير به هو حق الطفل بالعيش ضمن عائلة تغذيه وتمدّه بالحب غير المشروط، عائلة تحترم كيانه ووجوده، تسمح له بالتعبير عن ذاته وعن آرائه وأفكاره حتى لو أتت هذه الأخيرة مخالفة لآرائهم ولطريقة تفكيرهم.
يحتاج الطفل إلى مقومات كثيرة لينمو ويكبر بشكل صحي وأبرز هذه المقوّمات: الحب.
والحب الحقيقي هو الحب غير المشروط.
الحب الذي يشعر به من لحظة تكوّنه في رحم والدته حيث سيشعر إن كان مرغوباً به أم لا.
الحب الذي يشعر به عندما يحتضنه والداه في اللحظة الأولى من قدومه إلى الحياة فيدرك أنه محبوب بدون شروط وتوقعات.
في عالم الراشدين، نميل إلى الإعتقاد بأن الرضيع لا يشعر أو لا يدرك ما يكنّه له والديه. يظن الجميع بأن الطفل لا يميز الحب الحقيقي والغير مشروط عن الحب المحدود. يُسقِط الأهل كافة معتقداتهم وجروحاتهم على أطفالهم من دون أن يشعروا بعواقب وتبعات هذا الأمر.
فهم اعتادوا ذلك لأن هذا ما عاشوه في الأصل مع ذويهم.
وهكذا تولد حلقة من الأنماط المتوارثة من جيل إلى جيل إلى أن يقرر أحدهم أن يكسرها ويحد من انتقال تلك الصدمات والجروحات إلى جيل جديد.
غالباَ ما يكون هذا الفرد من العائلة المعالِج والشافي لذاته، لأهله، لأجداده وأسلافه ولأبنائه وأحفاده وللأجيال القادمة من بعده.
هذا الفرد من العائلة هو الذي سيعيد نشر الحب غير المشروط.
الحب الذي سيسمح له بأن يقبل من هو عليه، الحب الذي سيسمح له بتقبّل سماته الخارجية، بالتصالح مع جسمه، بمسامحة نفسه وبالتالي مسامحة أهله الذين فرضوا عليه كيف يتصرّف، كيف يرضيهم من خلال دراسته وعلاماته في الامتحانات، من خلال تخصصه الجامعي، من خلال خياراته المهنية والعاطفية، من خلال علاقاته التي يجب أن تلبي توقعاتهم، واعتقادتهم ومعتقادتهم المحدودة. والأخطر من هذا كله عندما يحاول أن يرضيهم من خلال كبته لمشاعره وعواطفه، فنراه يعيش عكس إرادته الحرّة كابتاً أبسط حقوقه في التعبير.
فمن منا لم يسمع بعبارة: "ما تبكي بتزعل الماما " – "ما تصرّخ بتزعج البابا" ؟
من منا لم يسمع: "إذا عملت هيك بوقّف حبّك" – "إذا ما عملت متل ما بدي، بغضب عليك."
كثيرة هي العبارات التي تستخدمها الناس في تربية أطفالها فتمنعهم من أن يكونوا على سجيتهم وتحد من نموهم الصحي والمتوازن والأشد خطورة ان تلك العبارات تكوّن معتقدات خاطئة في العقل الباطني عند الطفل فيبدأ بتكوين أفكاراً مغالطة عن الحب ويخلط بين الحب والعنف.
الطفل الذي يتعرّض للتهديد والعنف والترهيب من والديه سيظن بأن ذلك هو الحب. فإن كان مصدر الأمان في حياتهم هو من يرهبهم، سيعتقدون بأن هذا هو الحب وبالتالي سوف يقبلون ذلك في علاقاتهم المستقبلية لأن هذا ما اعتادوه وهذا ما صدقوه عن الحب.
عندما نتصرّف عكس إرادتنا الحرّة، عكس طموحاتنا وميولنا لنرضي أهلنا وناسنا خوفاَ من أن نجرحهم أو خوفاَ من نكرانهم ورفضهم لنا، نكون قد دخلنا في فخ الحب المشروط وسيصعب علينا الخروج منه كلما اعتقدنا وصدقنا أن هذا هو الحب الحقيقي وأن التضحية بخياراتنا في سبيل إرضاء كبرياء وعزة العائلة هو الحل الأفضل والأسلم تفادياً للمشاكل والخلافات.
وماذا سينتج عن هذا القرار المبني على الخوف من الرفض؟
حياةَ حزينة وتعيسة مليئة بالخيبات.
عندما نربي ثمرة حبنا على الخضوع لشروطنا، نضفي المزيد من الحزن والخوف في هذا العالم.
نأتي بطفل وُلِد من خلال الحب لنجعله يخضع لما عانينا منه في الأصل: رفْض ذوينا لنا عندما خالفناهم الرأي.
نعيش اليوم في عالم يشوبه كثير من الألم، والضغينة، والكراهية، والطمع، والعلاقات غير الحقيقية، غير المتساوية والمتناغمة بسبب انعدام الحب.
وهذا الواقع هو نتيجة الخوف.
فالخوف هو الوجه الآخر للحب.
يظن الكثيرون بأن الكراهية هي نقيض الحب. الكراهية تولد من الخوف والخوف يولد من الحب المشروط. لماذا؟
لأن الحب المشروط سيجعل الطفل ينمو في جو غير آمن، في جو يملي عليه كيف يجب أن يكون، متى يجب أن يشعر، من يجب أن يحب، كيف يجب أن يعيش كل لحظة من حياته وإلا....
وإلا سيخسر حب أهله ودعمهم له...
كم من عائلة تهدد أبناءها بحرمانهم من الميراث في حال تزوجوا من شريك من دين مختلف؟
كم من أب وأم هددوا أولادهم بالتخلّي عنهم لأنهم اختاروا اختصاصأ لا يليق بالعائلة؟
كم من عائلة نكرت أولادها لأنهم ارتكبوا أخطاء معيّنة في حياتهم، أو لأنهم عبّروا عن آرائهم السياسية والدينية والاجتماعية الخاصة والمناقضة لآراء العائلة أو لأنهم عبّروا عن ميولهم الجنسية المختلفة ؟
هذا ليس حباً. هذه أنانية.
هذا تملّك... وحجز للحرية.
إن أردنا اليوم أن نخلق تغييراَ في هذا العالم، علينا أن نبدأ من ذاتنا.
علينا أن تعيد النظر في كيفية تربية أولادنا.
علينا الشفاء من الحب المشروط الذي مررنا به وحوّلنا إلى نسخة عن ذوينا.
أولادنا اختاروا القدوم إلى حياتنا ليساعدونا على الشفاء من جروحاتنا ومن خيباتنا.
أولادنا هم مرآة لنا.
أولادنا هم أساتذتنا.
أطفالنا هم من اختاروا القدوم إلى هذا العالم ليعيدوا الحب والنور والسلام.
فلنستمع لهم، ولنحبهم من دون توقعات وشروط ولنسمح لهم بأن يكونوا ما هم عليه.
إن أردنا اليوم أن نعطي أهم الحقوق لأطفالنا، فلنمنحهم حقهم في الحب الحقيقي.
فهذا هو الحب الوحيد لذي سيعيد نشر السلام.
بقلم ميراي حمّال
المصدر: النهار
https://www.annahar.com/arabic/section/140-%D8%B1%D8%A3%D9%8A/18112020104217270