لا شك بأن الخطوط العريضة التي بُنيت عليها «وثيقة سياسة حماية الطفل الموحدة الخاصة بالمؤسسات والجمعيات الأهلية العاملة مع الأطفال في لبنان»، قد راعت أمس خلال إطلاقها من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية وشركائها في «الأونيسكو»، معايير أساسية وجدية تندرج في صلب الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها لبنان قبل نحو 26 عاماً.
لكن غاب عن الوثيقة أبرز ما ينتظره المجتمعان اللبناني والدولي ولجنة الطفل في الأمم المتحدة من الدولة اللبنانية، ويتمثل بوضع سياسة رعائية رسمية تقوم على عدم سلخ الطفل عن أسرته، كما يحصل مع الغالبية الساحقة من الأطفال الذين يستفيدون من دور الرعاية.
وكان للمستشار فهمي كرامي الذي مثّل وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس أمس، أن يتلقف هذا النقص بالقول إن الوثيقة «تحدد أسباب الخطر، ومكامنه، وتحاول تخفيفها، وتسعى لحماية الطفل منها حاليا بوضعه في مؤسسات رعائية، ومستقبلا بتمكينه في أسرته، وتمكين أسرته برعايته، محاولين أن تكون المؤسسة أبغض الحلال، لقناعتنا بأن الأسرة هي أفضل مكان لنشأة الطفل»، وفق كرامي نفسه.
السؤال هنا ليس عن مدى معرفة الجهات الرسمية بالمصلحة الفضلى للطفل، بل في مدى وجود سياسة رسمية جدية تقفز فوق المحاصصة الطائفية والمذهبية لتوزع المؤسسات الرعائية في البلاد، ما يحوّل وزارة الشؤون الاجتماعية إلى صندوق مالي توزع الدولة عبره الأموال على مؤسسات الطوائف والنافذين.
هذا لا يقلل من أهمية دور بعض مؤسسات الرعاية الجدية والملتزمة بحقوق الطفل، ولا من وجود حالات يتحتم معها وضع الطفل في مؤسسة رعائية بسبب عدم وجود من يرعاه إثر وفاة الأب أو الأم أو الاثنين معا أو في حالة تعرضه للخطر في كنف أسرته، ولكن الملاحظات الأساسية التي يتلقاها لبنان لدى مناقشة تقرير حقوق الأطفال في لجنة الطفل في الأمم المتحدة تتكرر دائماً حول إبداء «القلق العميق من العدد الكبير للأطفال المسلوخين عن عائلاتهم والموضوعين في دور الرعاية من دون أسباب وجيهة لذلك». ولقد مرّ أكثر من ربع قرن على تبني الأمم المتحدة سياسة حقوقية صارمة تجاه عدم سلخ الطفل عن أسرته إلا في حالات محددة جداً، وبناءً على إجراء قضائي.
ولم يتوضح خلال إطلاق وثيقة سياسة حماية الطفل أمس، والتي أنجزت بالشراكة مع جمعية «دار الطفل اللبناني» ومنظمة «أبعاد»، إن كانت وزارة الشؤون قد عدّلت سياستها الرعائية المتمثلة في المساهمة في تغطية كلفة الطفل المحتاج للرعاية في مؤسسات الرعاية في حال إقامته ونومه في الدار فقط، وهو ما كان يعتبر مساهمة في سلخ الطفل عن عائلته، ويؤدي إلى تمنع عائلات كثيرة عن الاستفادة من خدمات دور الرعاية بسبب هذا الشرط.
وتساءل مشاركون أمس إن كانت وزارة الشؤون قد نجحت أخيراً في وضع معايير واضحة للمؤسسات الرعائية التي بيّنت دراسات سابقة أن جميعها (سواء كانت متعاقدة مع الوزارة أم لا) لا تملك ترخيصاً بالعمل كمؤسسات رعائية إيوائية، بل لديها فقط علم وخبر من قبل وزارة الداخلية كجمعيات «اجتماعية».
وكانت الدراسات نفسها وأهمها تلك الصادرة عن «مؤسسة البحوث والدراسات» قد وثقت أن الغالبية الساحقة من الأطفال المودعين في دور الرعاية هم من غير الأيتام. وبلغ هؤلاء، أي الأيتام، على سبيل المثال لا الحصر، في العام 2006 ـ 2007، ألفاً وتسعة أطفال فقط من 23 ألفاً و500 طفل مودعين في دور الرعاية. ولم يتجاوز عدد الأطفال أيتام الأم والأب، الأربعة أطفال، وفق الدراسة نفسها.
وتتقارب هذه الأرقام مع أرقام العام 2014 التي أشارت إلى وجود 25 ألفاً و714 طفلاً داخل هذه المؤسسات، وتتراوح أعمارهم من يوم واحد إلى 18 عاماً، وذلك استناداً إلى جدول المؤسسات الرعائية الاجتماعية المتعاقدة مع وزارة الشؤون.
هذا الواقع لفت إليه كرامي أمس بقوله «نعم في بعض دور الرعاية الأغلب ليسوا أيتام الام والاب، ولكنهم أيتام من الحاجة والعوز وقلة الوعي، أيتام غياب سياسة اجتماعية واعية رشيدة، تسعى لرفع مستوى الأسرة اجتماعيا واقتصاديا بتنسيق بين الوزارات كافة»، ليبرر أداء الوزارة بسؤاله «هل نقفل المؤسسات ونرمي الأطفال لمجتمع مدمر فيخرجوا مجرمين إرهابيين؟ ام نتعاون بصورة إيجابية بناءة لنساعد هذه المؤسسات لتحسن خدماتها بتحسين معاييرها، ومراقبتها، وتوعيتها عند الحاجة على مواطن الخلل، الى أن توضع الخطط وترصد الأموال؟ ونعترف لها بفضل تقوم به عوضا عن دولة تقاعست عبر العصور»؟
وهنا تجدر الإشارة إلى أن كلفة تغطية خدمات مؤسسات الرعاية الاجتماعية تتعدى نحو 80 في المئة من موازنة وزارة الشؤون، وهي غير الأموال التي تُدفع للمؤسسات الرعائية التي تهتم بالأشخاص من ذوي الإعاقة.
وفي ظل فشل المحاولات المتكررة لتصنيف مؤسسات الرعاية، تفرض التوازنات الطائفية للمؤسسات المتعاقدة مع وزارة الشؤون نفسها على أي وزير يتولى حقيبتها تحت ضغط «لوبي» الطوائف، بغض النظر عن الخلفية الحقوقية التي يحملها هذا الوزير أو ذاك، إذ إن المعضلة الأساس تكمن في غياب سياسة رسمية ثابتة منذ الاستقلال وحتى اليوم مبنية على تمكين الأسر الفقيرة والتأسيس لبنية اجتماعية تتيح للعائلات عدم سلخ أطفالها عنها بل رعايتهم في كنفها.
ولا تستفيد مؤسسات الرعاية الاجتماعية من الدولة عبر وزارة الشؤون فقط، فبالإضافة إلى بدل الرعاية من «الشؤون»، يرسل بعضها الأطفال إلى مدارس رسمية على نفقة وزارة التربية أو تتلقى عن كل تلميذ منهم مساعدة الدعم التربوي التي تمنحها وزارة التربية للمدارس الخاصة المجانية (ومعظمها طائفية أيضاً) كما تطبب الأطفال على نفقة وزارة الصحة، سواء في مراكز الرعاية الصحية الأولية أو في المستشفيات. وفي النهاية، تبدو الطوائف، عبر مؤسسات الرعاية، هي التي ترعى أبناءها لا الدولة التي يجب أن تكون راعية لمواطنيها.
وبرغم البنود الحقوقية التي تضمنتها وثيقة سياسة الحماية والتي تشكل خطوطاً عريضة مقبولة لحماية الأطفال المستفيدين من الجمعيات ومؤسسات الرعاية، يُلحظ غياب آلية واضحة لمراقبة الالتزام بهذه البنود والحرص على تطبيقها في ظل النقص المعروف في عدد المراقبين في وزارة الشؤون وأيضاً آلية المراقبة من قبل الوزارة داخل المؤسسات.
والملاحظ أن الوثيقة التي أطلقت أمس تتطلب توقيع المعنيين في المؤسسات من مسؤولين وعاملين ومقدمي خدمات على الوثيقة، كما ان الملحق الرقم 2 الخاص بآلية الإبلاغ في المؤسسة عن أي إساءة، يترك الأمر لمسؤول الحماية عبر المسارين الاجتماعي والقضائي، من دون توضيح رقابة وزارة الشؤون وتحققها من الإساءة. فهل تكمن المشكلة في عدم معرفة المؤسسات الرعائية لما هو مسيء للطفل أم لا؟ أم في التزامها به والسهر الرسمي على هذا الالتزام ومراقبته؟
تحدّثت في إطلاق الوثيقة أمس مديرة «دار الطفل اللبناني» أمل فرحات باسيل والمديرة التنفيذية لـ «أبعاد» غيدا عناني ومسؤولة برنامج «موزاييك» الذي تقع الوثيقة في صلبه سناء عواضة وممثلة السفير الإيطالي الذي تمول سفارته المشروع بالإضافة إلى كرامي. وشارك في ورش العمل التشاورية للوثيقة نحو 125 جمعية ومنظمة ودار رعاية تعنى بالأطفال.
بقلم سعدى علوه
المصدر: السفير