نوعيّة التعليم... لا كمّيته

أربعاء, 10/05/2016 - 01:53 -- siteadmin

أن نبدأ الإعداد والتعليم بالطلب إلى المُتعلمين الإجابة خطيّاً عن أسئلة نطرحُها عليهم في موضوع عام يختارونه هم، أو في موضوع يتعلق بإحدى مواد التدريس العلميّة، كأن نسألهم مثلاً، ما هي طبيعة الغشاء الذي يغطّي جوانب قنينة من زجاج تحتوي ماءً، أُخرجت للتوّ من البراد؟ ولماذا تكوّن هذا الغشاء؟ ومن أين أتى؟ ولماذا لم يكن بادياً قبل إدخال القنينة؟ نكون بهذا نسير بعكس ما هو معهود في التعليم في لبنان.

إذ لا تطرحُ في أي ظرف من الظروف أسئلة كهذه مشتقة من الواقع، والتي لا تتطلب مجرّد ترداد للمعلومات التي يملكها المتعلّمون، بل توظيفها بهدف البحث عن الإجابات. بالإضافة إلى هذا، يكفي أن نطرح هذه الأسئلة لنفعّل أدمغة المتعلمين، علماً بأن هذا الأسلوب سوف يكشف معلوماتهم الفعليّة، ويضع أمام أعيننا الكثيرمن المفاهيم الخاطئة ومن أنماط التفكير المستغربة. وقد مارسنا أسلوب التعليم هذا في إعداد المعلمين في كليّة التربية في الجامعة اللبنانية، باعتماد ظواهر مأخوذة من الحياة اليومية، مرتبطة بعلم الأحياء. ولدى مناقشة الإجابات مع الطلاب، نولّد التفاعل بين المعلم والمتعلمين، فهنا لا علامات ولا مجرّد صح وخطأ، بل نقاش وتوافق وإقناع حول ما هو منطقي، وما هو الأقرب الى الحقيقة العلمية. وقد أعطى هذا الأسلوب نتائج مشجعة جعلت المتدرّبين يطلبون المزيد ولا يرغبون في إنهاء الدرس.
بعكس ذلك، كان لافتاً في السنوات الماضية فرح التلاميذ لكل يوم عطلة إضافي يعطى لهم، بسبب عاصفة أو أي حدث آخر، كما لفََتَ ظهورُ دلائل أخرى غير مطمئنة. وما هذا الفرح وهذه الأعمال الملتوية إلا الدليل على فشل المدرسة، مهما كان نوعها، في خلق الرغبة في التعلّم لدى التلاميذ، وكأنّ كل يوم عمل فيها عبء عليهم، فنرى المعلمين والمتعلمين خائبين في مهمتهم. وبالفعل، فضمن نطاق التعليم المبني على الحفظ، يبدأ المعلمون بإلقاء الدّرس على التلاميذ، ثم يطلبون إليهم استرجاعه بعد فترة. فإذا كانت الإجابات مطابقة لما شرحوه في الصف، يعتبرون أن التلميذ اكتسب المعرفة، فينال علامة جيّدة ــ وينجح ــ من دون أن يكون قد تعلم فعلياً. وهذه الأساليب تولد الملل والضّجر، فيبدو الوقت طويلاً.

وأسباب هذا الفشل عديدة، أولها أن المعلمين يجهلون أساليب التعلّم الفعلي وظروفه، فلا تعلّم من دون تساؤل، ولا تعلّم خارج نطاق العمل الفردي، وخارج الطرق النشطة التي تترجم بعمليات فكرية يمارسها المتعلم، من تحديد مشكلات، وابتداع فرضيات، وإسداء براهين، الخ. وكل هذه العمليات الإبداعيّة تكسب من يمارسها معلومات معيّنة، كما تكسبه نمط عمل يعطيه القدرة على الاكتشاف في حالات جديدة. فهذه العمليات الفكرية تميّز الإنسان، بينما الحفظ والتذكّر، أنشطة مشتركة بين الإنسان والحيوان، فالنحلة مثلاً تتذكر مكان الأزهار التي سبق لها أن أخذت منها غذاءها، فتتمكّن من العودة إليها.
وإذا كان الحدث في مناهج 1997، إدخال الطريقة الاختبارية في تعليم العلوم، فإن الكتب التي ترجمت هذه المناهج في مادّة علوم الحياة تعرّضت لنقاط ضعف عدّة، منها رسم خاطئ لأفقيّة سطح السوائل، من دون أن يدري منفذو هذه الرسوم والمشرفون على إنتاج الكتب هذا الخطأ ليصححوه. وليست آخر نقطةِ ضعفٍ في هذه الكتب ما يتعلق بعنصر "الشاهد" في العملية الاختبارية. فالمعلومات هنا معروضة بعكس ما هو معتمد في أسلوب العلماء في كشف الحقائق العلمية، فما على التلميذ إلا أن يحفظها. وكنّا قد تطرّقنا إلى كل هذه الأخطاء وغيرها، في بحث نشر في عام 2007 تحت عنوان "من أجل مراقبة ابيستمولوجية للكتب المدرسية" ضمن أعمال مؤتمر "الكتاب المدرسي: دوره، مضمونه، جودته"، الذي نظمته الجمعية اللبنانية للعلوم التربوية في عام 2005.
وكنا قد أشرنا أيضاً في هذا البحث الى استعمال مفردات متعدّدة المعاني، مثل كلمة "أهمّية"، التي لا تعبّر بدقة عما هو مقصود بها، فلا يعود التلميذ يستطيع أن يفهم المعنى المقصود للنص. وبهدف التأكد من صحة فرضيتنا، أجرينا لاحقاً بحثاً طلبنا فيه، من طلاب جامعيين وتلامذة مدارس، إبدال كلمة "أهمّية" بالكلمة التي فهموها. وجاءت النتيجة أن الطلاب والتلامذة فهموا هذه الكلمة بسبعة عشر (17) معنىً مختلفاً، كما هو وارد في نص البحث باللغة الفرنسية، بعنوان "استعمال مفردات متعددة المعاني وتأثيرها على التعليم والتعلم في العلوم"، المقدّم ضمن أعمال المؤتمر التربوي العاشر لأساتذة العلوم والرياضيات، الذي أقيم في عام 2006، والذي نشر على موقع المركز التربوي للعلوم والرياضيّات في الجامعة الأميركية في بيروت في عام 2007، في حين أن معناها الحقيقي كان في هذا النص "الدور" أو "المفعول" الذي يشير إلى العلاقة السببية، الأساسية في الاكتشافات العلمية. ويُقصد بقانون السببية أن لكل حدث سببأ، وأن نفس السبب، في نفس الظروف، يعطي نفس المفعول، وأنه دون سبب لا حدث. ففي التعليم، لا يطلب إلى الطلاب أن يفسروا ظاهرة ما، أي أن يحاولوا كشف السبب الكامن وراء هذه الظاهرة، بمعنى آخر أن يطبقوا عليها قانون السببية، ما يشكل عملاً علمياً لا أثر له في التعليم في لبنان. وقد حَمَلنا هذا الوضع على القول إن الجامعة تعدّ مجرد تقنيين وليس "اختباريين"، إذ يقومون بأعمال يدوية بحتة، من دون هدف محدّد إلا إيضاح بعض المعلومات. كما أن المدرسة تعدّ سحرة يقتنعون بأحداث من دون سبب، ويغيب عن الاثنين قانون السببية المميّز للعلم.
إن ما سبق يجعلنا نتساءل عن نوعيّة تعليم العلوم السائدة في لبنان، وعن تأثير خضوع التلامذة، وبشكل خاص المعلمين، لمحتوى الكتب من دون أن يكونوا، بسبب النقص في معلوماتهم، قادرين على تصحيح الأخطاء الواردة فيها. أما الأهم في هذه القضية، فهو الإقرار بأن المعلمين والتلاميذ بعيدون كلّ البعد عن التفكير والإبداع والعلم، بينما طرق اكتساب معلومات دائمة ومرنة وقابلة للتوظيف في حالات جديدة تتطلب مجهوداً فكرياً ونشاطاً مستمراً، وبغيابها لا نموّ لقدرات التلاميذ الفكرية الضرورية لتعلّم العلوم. لذا، فإنّ نوعيّة التّعليم المرجوّة هي التي تحتّم المدة الضرورية لأي تعلم فعلي، علماً بأن هذا النوع من التعليم الممتع يتطلب وقتاً طويلاً. وفي الختام، إني أتبنّى توصية منظمة جامعة الدول العربية للتربية والثقافة والعلوم الصادرة في عام 1985 التي تقترح تغيير طرق التعليم بدلاً من تغيير المناهج في المدارس. كما أصرّت هذه المنظمة، في عام 1987، على إعلاء شأن البحث العلمي في العالم العربي، وذلك بزيادة دور الشباب في تنمية البحث العلمي والتكنولوجي في البلدان العربية!

بقلم اندره تحومي

أستاذة في الجامعة اللبنانية - دكتوراه دولة في طرائق تعليم العلوم

المصدر: الاخبار

Dislike
0