أول من أمس، غرق كيفين مدلج، ابن السنوات الست. قبله، غرق أطفال آخرون. أخذهم الموت في كنف من يفترض أنهم يحمونهم. تقول الاحصاءات ان 49 شخصا غرقوا في العام الماضي، بينهم أطفال، وغالبا، تلقى المسؤولية على الضحايا، يجري اختراع اسباب ومبررات لا هدف لها سوى اعفاء المسؤول من اي ملاحقة، وفي اقصى تدبير: اقفال المسبح لمدة اسبوع
مات كيفين مدلج (6 سنوات). مات غرقاً في احد المنتجعات البحرية، التي يُفترض أنّها مصنّفة “4 نجوم”. أرسلته والدته، صباحاً إلى المخيم الصيفي في مدرسة القديس يوسف للآباء الكبوشيين، للمشاركة في نشاط السباحة الذي تقيمه في منتجع “صواري بيتش” في البترون، موعودة بعودته إلى المنزل ظهراً.
في الوقت المحدّد لعودة ابنها، ذهبت ماجدة مدلج لإحضاره من مركز عمل زوجها، بعدما طلبت من منظّمي المخيم ارساله إلى هناك. كانت برفقة صديقتها عندما حدث كل شيء. فالوالدة التي فُجعت بصغيرها، تلقت نبأ رحيله عن طريق الصدفة، حين تسرّب إلى مسمعها من هاتف صديقتها التي كانت تتحدث مع شقيقتها، خبر غرق ابنها. سمعت “الشقيقة التي تعمل بالدفاع المدني تقول ابن ماجدة غرق”، يقول أحد أقرباء عائلة الطفل المتوفى. هكذا، تلقت ماجدة خبر الموت الذي سيقلب حياتها رأساً على عقب... وليس من خلال المنتجع ومنظّمي المخيم، أو المدرسة، إذ لم يكلف هؤلاء انفسهم عناء الإتّصال بأهل الضحية لإخبارهم بموته.
الأنكى من ذلك ان ماجدة وزوجها جهاد كانا، في ذروة صدمتهما، يبحثان وحدهما عن جثّة ابنهما في المستشفيات. ما رواه الوالد أمس كان سوريالياً. روى أنّ أحداً “لم يتصل بنا ليقول لنا في أي مستشفى؟ كيف ومتى توفي؟ وعندما وصلنا إلى المستشفى لم نجد أحداً منهم”. كان يحمل لعبة طفله، وهو يروي خسارته. سيستسلم في نهاية المطاف ويقول “كيفن مات”، لكنّه لن يسأم من السؤال عما حدث لابنه، يريد ان يعرف “شو صار، بدّي حدا يردّ عليّ ويقلي”.
لا أحد سيجيب، ففيما يمتنع منتجع “صواري بيتش” عن التصريح بحجّة أن “الإدارة مشغولة بالقصّة”، وفيما المدرسة غائبة عن السمع وكذلك منظّمو المخيم الصيفي، بدأت تتسرّب الشائعات التي تفيد بأنّ “الطفل كان مريضاً”، وهي الحجة التي تتكرر مع كل حادثة غرق، غير أنّ “تقريري الطبيبين الشرعيين اللذين عاينا الجثة يفيدان أن سبب الوفاة هو امتلاء رئتي الطفل بالمياه وقد بقي بحدود 4 دقائق طافياً على سطح المياه من دون أن ينتبه له أحد”، بحسب ما ادلى به أحد أقرباء عائلة الطفل الغريق. على هذا الأساس، رفعت العائلة دعوى أمام القضاء “ادعينا فيها على صاحب المنتجع والمنظم للمخيم الصيفي والمنقذين البحريين وأساتذة المدرسة بتهمة الإهمال وقلة الإحتراز سنداً للمادة 564 عقوبات”. انطلاقا من هذه الدعوى تحرك القضاء. يقول أحد المطلعين على الملف في وزارة السياحة ان “ القضاء يأخذ مجراه، حيث قضت النيابة العامة التمييزية بتوقيف المسؤول عن المخيّم الصيفي”، مشيراً إلى أنّ “الوزارة فتحت تحقيقاً”، وأنّه “حتى الآن يظهر الحق على أصحاب الكولوني الذين اخدوا 50 ولد ونزلوهن دفعة واحدة على البيسين، وعلى ما يبدو كان في اتفاق إنو المنقذ البحري يللي مع الكولوني هو اللي ينتبه للولاد”، مضيفاً أنّ “الوضع القانوني للمنتجع سليم والمنقذين البحريين لديهم شهادات وعاملين امتحانات”. ولكن، مهلاً، هل هذا يعفي المنتجع من مسؤولياته؟ وماذا عن مسؤولية وزارة السياحة نفسها في هذا الإطار؟
في المقام الأول، “لا أحد معفى من المسؤولية”، يقول نائب رئيس الجمعية اللبنانية للإصابات الرياضية، زياد الحلبي. يعيد الحديث عن النغمة التي تعب منها... ولم تصل، وهي أنّ “الأطفال يغرقون بصمت، لا يحدثون أصواتاً وهم يغرقون، ولذلك يجب على المنقذ البحري والمسؤول عن الطفل في غياب أهله مراقبته شخصياً”. ويعطف على هذا الأمر “أن يكون هؤلاء مدربين بشكلٍ كافٍ للقيام بهذه المهمّة”. في حالة كيفين، ثبت أن “لا أحد كان يراقب الأطفال بدليل أن الطفل طفا على سطح المياه قبل أن يلحظوا موته”، غير أن التحقيق لم ينته لمعرفة ما إذا كان المنقذون الموجودون والمسؤولون مدربين على القيام بهذه المهمة. بانتظار هذا التحقيق، لا شيء يعفي من القول أن كيفين وغيره من الأطفال راحوا في غفلة من عين السلامة العامة. فإن كان لا بدّ من الحديث عن غياب معايير السلامة والاشخاص المدربين لتأمينها، فلا يخفى على أحد أن “معظم المسابح تفتقر الى منقذي سباحة، وإذا كانوا فيها، فإن معظمهم يفتقر الى الكفاءة”، يتابع الحلبي. والسبب؟ الدورات التدريبية التي تقوم بها وزارة السياحة غير كافية، لكونها تقتصر على دورة واحدة سنوياً، لعدد طلاب غير كاف أصلاً، مقارنة بعدد مسابح تنبت كالفطر في كل حين.
بحسب المدرب البحري عثمان قاسم “وضع الدورات التدريبية متل البلد، كل واحد فاتح على حسابه، حتى إن وزارة السياحة تقوم بدورات سطحية أكثر مما هي متخصصة، فدورات الإنقاذ البحري تتفقّد فقط ما إذا كان الشاب يتقن السباحة وشوية غطس، وتجرى الاختبارات في بيسين من 25 مترا ويعطى على أساسها شهادة”. ولكن، ماذا لو كان هناك حادثة غرق في البحر؟ كيف يواجه المنقذ حينها التيارات البحرية؟
أضف إلى ذلك كلّه أن المنقذين البحريين ليسوا ثابتين، فهذا العمل الذي هو بلا ضمانات وغير المعترف به كعمل أصلاً لا يستهوي سوى قلّة، وهو في الغالب “عمل العاطلين من العمل وطلاب الجامعات فقط”. هذه اللامبالاة في التعاطي مع مهنة الإنقاذ البحري تقودنا إلى هذا الموت. إلى موت كيفين وقبله 4 آخرون في موسم هذا الصيف و49 في موسم صيف العام الماضي. كل ذلك يحدث، فيما الوزارات المعنيّة بمراقبة المسابح الخاصة التي تحتل الأملاك العامة غائبة عن إصدار قرارات رادعة، ولا يبدو أن هناك “هيبة” لتلك الوزارات على أصحاب المسابح. وقد يفهم هذا الأمر عندما تكون آخر مخالفة تسطّر بحق أحد المسابح التي تسببت بموت أحدهم تعود إلى عام 2001!
بقلم راجانا حمية
المصدر: الاخبار