الصعوبات التعلّمية: حالة تعلّمية وليست خللاً دماغيّاً

ثلاثاء, 10/18/2016 - 10:55 -- siteadmin

ان الأبحاث التي تربط ما بين الخلل في الدماغ والصعوبات في اللغة يعود الى الحقبة ما بين (1758 - 1828)، إذ أجرى العالِم (Gall) أبحاثاً طبيّة أظهرت نتيجتها علاقة ما بين الخلل الدماغي ومشاكل اللغة. لكنّ نتائج أبحاث (Gall) رغم تبنّي عدد من العلماء والباحثين لها، أمثال (Head, 1963) (Orton, 1920)، إلا أنها خلّفت جدلاً واسعاً بين الأطباء والتربويين، الذين أكدوا صعوبة الربط بين الخلل الدماغيّ وصعوبات التعلّم، مشددين على أنّه حتى لو ظهرت مشكلة دماغيّة ما فإن التعامل معها لا يوصل إلى أي نتيجة (U.S. federal government, task force II) وأنّ الأجدر إيجاد حلّ للمشكلة التعلميّة بعيداً عن التصنيفات الطبيّة والفيزيولوجيّة. إذاً، لا أظن أبداً أننا بحاجة إلى العودة قروناً من الزمن إلى الوراء لنُعرّف مشكلة تعلميّة، في الوقت الذي تُجرى فيه الأبحاث والدراسات المتعلّقة بالصعوبات التعلميّة بانتظام ودقة بالغتين، والتي قد ولّدت العشرات من التعريفات المختلفة، حيث ظهرت جليّة في التسميات المتعددة للمشكلة، والتي تنوعت بين صعوبات التعلم الخاصة (specific learning difficulties) الإعاقة التعلميّة (Learning disabilities) أو الديسلكسيا وغيرها، وهذا مجال جدليّ آخر لا يسع المقام لذكره الآن. إذاً، إن صعوبات التعلّم هي أكثر من كونها مشكلة دماغيّة. وحتى لو افترضنا جدلاً أنّ هذا صحيح، فهذا يعني أنّ علينا تحويل المتعلّمين، سواء كانوا أطفالاً أو كباراً، إلى عيادات أطباء الأعصاب والدماغ بدل المراكز التربويّة، وهذا ما لا يريد سماعه الأهل ولا حتى المتعلمون أنفسهم.

إذاً، الصعوبات التعلمية انتقلت لأول مرة من كونها مسألة طبية الى كونها شأناً تربويّاً خلال عام 1968 عبر المكتب الأميركي للتربية (NACHC)، إذ عرّف الصعوبات التعلمية بأنها مشكلة تعلمية تتطلب تدخلاً تربوياً لا علاقة للأطباء بها ، وأشار المكتب الى أنّ الصعوبات التعلمية هي خلل في واحدة أو أكثر في العمليّات النفسيّة التي تؤدي بدورها الى خلل في مهارات الاستماع، والتفكير، والتحدث وغيرها. هذا التعريف، على الرغم من الانتقادات الكثيرة الموجهة إليه على اعتبار أن عبارة "خلل في العمليّات النفسيّة"، زاد من تعقيد التعريف، إلا أنّه لا يزال يعتمد في بعض الدول العربية حيث أدرج في الوثيقة التربوية في المجلس الاعلى للتعليم في قطر، وهو تعريف لم يعد معتمداً حتى في أميركا نفسها، ما يدلّ على أننا لا نزال بحاجة الى مواكبة الأبحاث الغربيّة لكونها في تطور دائم واستبدالها وفق نتائج الأبحاث الجديدة.
إن صعوبة إيجاد تعريف عمليّ للصعوبات التعلميّة منذ الستينيات، وصولاً الى السبعينيات من القرن الحالي، فتحت المجال لاقتراح مصطلح جديد هو الأكثر اعتماداً في الوقت الراهن يسمى (IQ- achievement discrepancy model)، إذ يدل على أن الصعوبات التعلمية تظهر عند قياس الفارق بين بعض النتائج التحصيلية للمتعلم كمهارات القراءة والاستماع، بالمقارنة مع بعض النتائج المتعلقة بالمهارات الفكريّة كالذاكرة السمعية أو البصرية وغيرها  . لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ هذا لم يكن التعريف الأخير، بل ظهرت على غراره تعريفات كثيرة تنتقد أو تنكر كليّاً اعتماد الذكاء كعامل أساسي في تشخيص الصعوبات التعلمية. أما الجديد الذي أضيف أخيراً، ويعرف بتقرير روز (Rose’s Report, 2009)، فيشير الى أنّ الصعوبات التعلمية هي حالة دائمة ولا يوجد أي حد فاصل لها، مضيفاً أيضاً أن الخلل في الوعي الفنولوجي هو إحدى خصائص الصعوبات التعلمية. وقد تبنّى هذه الإضافة عدد كبير من الجمعيات؛ من بينها BDA, Dyslexia Action, PATOSS وغيرها.
إن ما سعيت إلى ذكره في هذا المقال هو الإشارة إلى بعض الأمور لرسم خط فاصل بين بعض الحقائق والأخطاء الشائعة في هذا المجال. على ضوئه، أقول إنّ صعوبات التعلّم هي من أعقد المشكلات التعلميّة، إذ لا إجماع عند علماء التربية على تعريف المشكلة، ولا على تشخيصها، ولا على المتابعة التعلميّة لاحقاً. لكن هذا لا يعني أنّه لا حلّ للمشكلة وأنّ المتعلّم غير قادر على تحقيق نتائج إيجابية، بل على العكس من ذلك فإذا تمّ التشخيص التربوي باعتماد أدوات قياس مقنّنة تقيس كلّ الجوانب المرتبطة بالتعلّم، فإن التدخّل والمتابعة اللاحقين لا بدّ أن يفضيا إلى نتيجة إيجابيّة، ولو طال وقت المتابعة عن المعدّل الطبيعي للفئة العمريّة التي ينتمي إليها المتعلّم. وفي دراسة حديثة أجراها البروفسور إبراهام نورش (Norwich. et al)، أظهرت أن الأطفال الذين لديهم صعوبات تعلّميّة يستطيعون التعلّم باعتماد المنهاج المدرسي العادي نفسه، مع الأخذ بالحسبان إجراء بعض التعديلات البسيطة.
في الختام، أتوجّه الى الاختصاصيين التربويين للمشاركة في نشر التوعية بما يخص القضايا التربوية والنفسيّة، مع الانتباه الى ضرورة اعتماد المصطلحات التي لا لبس فيها، والتي من شأنها أن تسهّل عملية الفهم لغير المختص لا العكس.

بقلم د. سكينة عفيف النابلسي - مديرة مركز كاي (CA.I) للصعوبات التعلمية

المصدر: الاخبار

Dislike
0