ي اليوم الذي انتُخِب فيه رئيس جديد للجمهوريّة اللبنانيّة، أوقفت القوى الأمنيّة مجموعة مِن القُصّر، في محلّة أبي سمراء ــ طرابلس، وذلك في جُرم سرقة أموال مِن داخل مركز إحدى الجمعيّات الأهليّة. كان الخبر ليكون “عاديّاً” لو أنّه مُجرّد سرقة. لكن ما ليس عاديّاً هو أن نكون أمام ما يُشبه عصابة، تحترف السرقة، وعمر أحد أفرادها 14 عاماً.
اثنان آخران عمراهما 15 عاماً. عددهم 5 وكلّهم قُصّر. الخبر السيّئ، داخل الخبر السيّئ، لحاملي عقدة “إكزينوفوبيا” (كُره الأجانب)... هو أنّ هؤلاء “الأطفال” ليسوا مِن اللاجئين السوريين. إنّهم لبنانيّون. مِن أبناء عاصمة الشمال. ما ليس عاديّاً أنّهم، وبجهد مُشترك، تسلّقوا المبنى بمخاطرة، فدخلوا المركز، ثم جمعوا مبلغ 12 ألف دولار أميركي و3 ملايين ليرة لبنانية. لم يَخطر في بال المُحققين، بداية، أن يكون الفاعلون “دون السِنّ” إلى هذا الحد. أُقفل محضر فصيلة درك المنطقة على “فاعل مجهول”. لكن لاحقاً، وبواسطة مفرزة استقصاء الشمال، تم تحديد الفاعلين. أوقف أحدهم، فأخبر عن الثاني، وهذا عن الثالث، وهكذا. عادي أن يَنهار هؤلاء بسرعة، فيعترفون بكلّ ما عندهم، ودموعهم تنهمر، وهم يَرتجفون. سُحِبوا مِن منازلهم واحداً تلو الآخر. أسقطت الجمعيّة، صاحبة المال، الادّعاء عليهم. بقي الحقّ العام. هم الآن موقوفون. عُثر معهم على بقيّة المبلغ، أعيد إلى أصحابه، أمّا ما كانوا قد صرفوه وبدّدوه، فقام ذووهم بتسديده. يعتقد كثيرون، خاصة أقارب الموقوف في حالات كهذه، أن المُسارعة إلى تسديد ما سُرِق سوف يُخفّف قضائيّاً في الحُكم. هذه أسطورة تشيعها جهات التحقيق غالباً، بغية إرضاء المدّعي، خاصة إذا كان صاحب حظوة. مَن لديه أطفال يَسرقون فإنّه لا يَملك المال غالباً للتسديد. يُسارعون عادة إلى الاستدانة، أو بيع بعض الأثاث، الرثّ أصلاً، في منازلهم. هذه “نمطيّة” تعرفها أروقة المخافر جيّداً.
مَن هم هؤلاء القُصّر؟ الأسماء لا تعني شيئاً. الأحرف الأولى من أسمائهم، الواردة في بيان قوى الأمن الداخلي، لا تُفيد شيئاً. القانون يَحظر نشر الأسماء الكاملة للقُصّر أثناء مراحل المحاكمة. هذا جرم في حدّ ذاته. مع ذلك، تجد الكثير مِن وسائل الإعلام المُصابة بـ”الشبَق الصحافي” لا تلتزم بالتحفّظ. مَن هم هؤلاء “الأطفال”؟ بمعنى آخر، لماذا هم كذلك؟ وكيف أصبحوا كذلك؟ مِن أين أتوا، مِن أيّ بيئة، مِن أيّ “عوالم سفليّة”؟ بالتأكيد هم لا يُعانون ما يُسمّى في علم النفس “كلبتومانيا” (هوس سرقة الأشياء ولو كانت بلا قيمة). أبداً، إنهم يَسرقون المال، لأنّهم حُرموا مِنه، لأنّهم فقراء جدّاً... إلى حدّ “التقنين” في الطعام أحياناً. مسؤول أمني في تلك المنطقة لا يَجد ما يقوله سوى: “إنّهم مِن المناطق الشعبيّة جدّاً. تلك المناطق، بحسب الخبرة، يوجد فيها الآن قنابل اجتماعيّة موقوتة. هذه المجموعة ليست استثناءً، ليست عابرة، لدينا كوارث”. هكذا هي طرابلس، على غرار مناطق أخرى أيضاً، حيث أحزمة البؤس وأحياء الفقر. إنّها “العشوائيّات” التي لم ولن يَفهم مَن هم “فوق” لغتها يوماً. تنشط جمعيّة حماية الأحداث العاملة مع وزارة العدل، أخيراً، في طرابلس والشمال عموماً أكثر مِن أيّ منطقة أخرى. هذا ما تقوله أرقام المُحالين مِنهم، بحسب المسؤولين، إلى الجمعيّات المختلفة لـ”احتضانهم”. ليس الآن مكان الحديث عن أصول “الاحتضان” علميّاً. ليس جديداً معرفة أن أكثر هذه الجمعيّات بحاجة إلى مَن “يَحتضنها” أصلاً. هذا قطاع “فالت على حلّ شعره”. الصالحون مِنهم، على قلّتهم، عاجزون عن استيعاب “أزمة بلد”. ماذا عن السجن؟ الحكاية نفسها تتكرّر، أزليّاً، حول سجن الأحداث. هناك حديث عن أن القاصر يدخل بجرم سرقة، مثلاً، فيختلط مع خبراء الإجرام، ليَخرج، عندما يَخرج، وهو يَحمل “دكتوراه إجرام”. هذه الأماكن في الأصل تُسمى “إصلاحيّة”. هل سنتحدّث في لبنان عن برامج دنماركيّة للتأهيل مثلاً؟ مع مَن نتحدّث؟ مع شُرطيّ السجون الذي يُمكن أن تشتريه بـ”سندويش فلافل”؟ غير الفتيان الخمسة، هناك أمّ لديها أربعة أطفال، أحداث، في السجن الآن. هي شماليّة أيضاً. الجرائم مختلفة، أو “كوكتيل جرائم” على حدّ قول إحدى المُساعدات الاجتماعيّات. تُحدّثك عن “ظواهر” فتيان صغار يَتعاطون المخدّرات، يَحملون “الشفرات” والسكاكين، وبعضهم “يُستَغل جنسيّاً. لا تعليم، جهل رهيب، صدّقني لا أحد يَعرف ما الذي يَحصل في تلك البؤر”.
بقلم محمد نزال
المصدر: الاخبار