ولّت أيام كانت عبارة «البحر المتوسط» تستدعي صوراً ذهنية لشواطئ ذهبية ومياه ذات أمواج تستدعي لعب الأطفال حيناً، وبناء قصور في الرمال أحياناً وتعني استجماماً ورفاهية وتأملاً في مياه البحر الزرقاء. وحان وقت ارتباط شرطي بين «البحر المتوسط» ومحاولات هجرة غير شرعية ونزوح أسر بكاملها سواء لعبور البحر شمالاً أو الإبحار من شرقه إلى جنوبه، أو الاكتفاء بالنظر إليه أملاً بأن يأتي يوم يعود فيه ليصبح قريناً للإجازات ومدعاة للتأملات في غد أفضل.
أفضل ما كان يحلم به محمد (12 سنة) حتى ثلاث سنوات مضت هو أن يأتي العام الدراسي الجديد ومعه وعد من مدير المدرسة بأن يكون مسجلاً في الفصل الذي يجمعه بأصدقائه الثلاثة المقرّبين. اليوم، الذي يصادف أول أيام العام الدراسي الجديد، تنحصر أكبر أحلام محمد بأن يعود إلى مدرسته ليعرف إن كان أصدقاؤه الثلاثة على قيد الحياة، أم نجحوا في الهروب مع أسرهم إلى دولة ما، أو إنهم ما زالوا في سورية على رغم الأوضاع.
محمد الذي يعيش مع أسرته في القاهرة منذ ثلاث سنوات يعرف تماماً أنه على رغم الأمل المتضائل والحلم المتباعد، لكنه ضمن قلة محظوظة مكنتها ظروف اقتصادية جيدة وحظ كبير من أن تنتقل للعيش في مدينة أكثر أمناً. لكن في داخل سورية وعدد من البلدان المضيفة للسوريين الهاربين من الاقتتال هناك، حوالى 12 مليون طفل يحتاجون مساعدات إنسانية. وتقدّر منظمة «يونيسيف» عدد الأطفال الذين يعيشون في مناطق محاصرة أو يصعب الوصول إليها في داخل سورية ولم تصلهم إلا مساعدات محدودة منذ عام 2012 بحوالى مليوني طفل.
وعلى مرمى بضع كيلومترات، يحتاج أكثر من 5 ملايين طفل عراقي تضرروا من الاقتتال العنيف في مدن عدة، لا سيما الموصل وتلعفر إلى مياه شرب وغذاء ومأوى وتعليم. وفي اليمن «السعيد» (سابقًا) أتت الحرب الدائرة على أنظمة المياه والصرف الصحي، ما فجّر الكوليرا وأمراض الجهاز الهضمي وأبرزها الإسهال القاتل، وذلك بعد تدمير نحو نصف المرافق الصحية، وحرمان حوالى 15 مليون يمني من المياه الصالحة للشرب.
مياه الشرب الشحيحة ضربت أطفال غزة في مقتل ومرض أيضاً. فقد أدّت أزمة الكهرباء المستمرة إلى انخفاض القدرة على الحصول على المياه بنسبة 30 في المئة، ما ضاعف من حالات الإسهال الشديدة في ثلاثة أشهر. وإذا أضيفت أزمات الكهرباء والمياه إلى أزمات الاقتصاد الطاحنة حيث حوالى 40 في المئة من الأسر تعيش تحت خط الفقر وتعتمد 70 في المئة من مجموعها على شكل من أشكال المعونة الخارجية، فإن ذلك يفسّر ارتفاع عمالة الأطفال في القطاع ارتفاعاً كبيراً.
السنوات القليلة الماضية شهدت انقلاباً في مواضيع التقارير والدراسات والإحصاءات الصادرة عن منطقة الشرق الأوسط في ما يتعلّق بالأطفال العرب. وبعد ما كانت الغالبية تتطرق إلى جودة التعليم، والمكونات الغذائية لوجبات الأطفال، وأثر الإنترنت فيهم، وتطويق التسرّب من المدارس، باتت عناوين مثل «فضاء للراحة لأطفال الرقة في سورية» و «نصف مليون طفل ليبي يحتاجون مساعدة» و «أطفال تحت القصف والكوليرا في اليمن» و «سنوات في مخيم الزعتري» و «عيادات على عجل في حلب» و «ثلاث سنوات بلا بيت في الموصل» و «الفقر يدفع بأطفال غزة إلى سوق العمل» هي المعتاد.
ولم يكن معتاداً في منطقة الشرق الأوسط أن يرزح هذا الكم المذهل من الصغار تحت تهديد القصف والتفجير والتهجير. وقبل أيام، حذّر المدير الإقليمي لمنظمة «يونيسيف» خيرت كابالاري من أن واحداً بين كل خمسة أطفال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يحتاجون مساعدات فورية، إذ يعيش أكثر من 90 في المئة من هؤلاء في بلدان متأثرة بالنزاعات. ويقول: «لا يزال النزاع يسلب الطفولة ملايين الفتيات والفتيان. ما شهدته منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من عقود من التقدّم يواجه خطر التراجع في الاتجاه المعاكس».
الاتجاه المعاكس الذي يسير فيه ملايين من الأطفال العرب قوامه نزاعات مسلّحة وعنف ونزوح وشح خدمات أساسية، وذلك بالنسبة إلى من نجوا من خطر الموت. ويوضح كابالاري أن ملايين العائلات العربية أُجبرت على الفرار من بيوتها، واضطّر بعضها للنزوح مرات تحت القصف. كما ضاعف استمرار العنف والنزوح صعوبة مواجهة الأطفال والعائلات لأوضاع بالغة الصعوبة.
هذه الصعوبة، كما تشير سلسلة من التقارير الصادرة عن يونيسيف ومنظمة العمل الدولية ومنظمات عمل أهلي خلال الأسابيع القليلة الماضية، أدّت إلى أربعة مسارات أحلاها مر. فمن إرسال الأطفال إلى سوق العمل سواء في البلدان المتضررة أو تلك التي نزحت إليها الأسر، أو الدفع بالفتيات إلى الزواج المبكر، أو انخراط الأطفال في صفوف المقاتلين، أو محاولة الهرب شمالاً عبر البحر المتوسط.
صفحات عنكبوتية لا حصر لها تعد بـ «زواج شرعي من سورية يتيمة للجادين» أو «موقع زواج إسلامي للراغبين في زوجة سورية صغيرة» أو «خدمة مجانية للزواج من سوريات»، وعناوين تحقيقات صحافية عن «زواج الأتراك من سوريات في مقابل ألف جنيه إسترليني» أو «مأساة سورية تفاقم زواج القاصرات»، ناهيك عن مكاتب «خدمات» في مساجد في بلدان مضيفة تقدّم «خدمات» شبيهة.
شبهة الاستغلال والاتجار بالبشر تحوم حول مثل هذه المسارات، لكنها مؤكدة وفق تقرير صدر قبل أيام، في عمليات الهجرة غير الشرعية الدائرة رحاها من جنوب المتوسط إلى شماله.
ويشير التقرير الصادر عن منظمتي «يونيسيف» و «الدولية للهجرة» ووكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة تحت عنوان «رحلات مروعة»، إلى أن الأطفال لاسيما الطفلات، يتحولون ضحايا لعصابات الهجرة غير الشرعية.
نادرة (14 سنة) تقول إن فرصها المستقبلية في الصومال شبه معدومة. وهي تنوي السير على خطى شقيقتها الكبرى التي تعاقدت مع عصابة لتهريب البشر واختفت قبل أعوام. لكن يظل خيار الهجرة غير الشرعية وما ينطوي عليه من استغلال جنسي خياراً أفضل بالنسبة إليها. وهي تقف وغيرها من آلاف الهاربين من نيران المنطقة إلى مياه المتوسط، سواسية أمام مستويات مروعة من انتهاكات حقوق الإنسان وفق التقرير.
فقد كشف 77 في المئة من المسافرين على طول طريق وسط البحر الأبيض المتوسط عن تعرضهم المباشر للإيذاء والاستغلال والممارسات التي قد تصل الى حد الاتجار بالبشر. وعلى رغم أن المهاجرين بسبل غير شرعية معرضون لهذه الانتهاكات، إلا أن الصغار أكثر عرضة.
تقول المديرة الإقليمية المنسّقة الخاصة لأزمة اللاجئين والمهاجرين في أوروبا أفشان خان إن «الحقيقة المؤلمة هي أن الاعتداء والضرب والتمييز والاتجار بالأطفال الذين ينتقلون عبر البحر المتوسط قد أصبحت ممارسات عادية».
اعتياد الانتهاكات وبدء العام الدراسي في ظل واقع مرير للطفل العربي يركّز الضوء على هاشتاق أطلقته «يونيسيف» يحمل رسائل ومناشدات كثيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. «الطفل هو طفل» يدعو إلى حماية الأطفال المقتلعين من جذورهم من الاستغلال والعنف، وإنهاء اعتقال الأطفال المهاجرين والنازحين وإيجاد بدائل لهم مع العمل على إبقاء الأسر معاً وإعداد وضع قانوني للأطفال في الدول التي نزحوا إليها.
كما تدعو «يونسيف» إلى مساعدة الأطفال المقتلعين من جذورهم على بقائهم في صفوف الدراسة والحصول على الرعاية الصحية اللازمة.
منطقة الشرق الأوسط المطلة على البحر المتوسط تعيش واقعاً مريراً أقسى ما فيه تحوّل الملايين من أطفالها من صغار يبحثون عن غد أفضل عبر حل مشكلات التسرّب من التعليم وتحسين نوعية الغذاء ومحاربة عمالة الأطفال إلى أطفال مقتلعين من جذورهم سواء في مدنهم عبر القصف والاقتتال، أو نازحين في بلدانهم هاربين من أماكن شديدة الخطورة إلى أخرى أقل خطورة، أو مهاجرين ومهجّرين وباحثين عــن هجـــرة غير شرعية أو مقيمين في بلدان مجاورة إلى أجل غير مسمّى.
بقلم أمينة خيري
المصدر: الحياة