يسكن الأمهات، عادة، هاجس اكتساب أطفالهن وزناً. يسكنهنّ فرح عارم كلما زاد الجسد الضئيل. يسمّينها «صحّة»، ويفاخرن بها، ظناً منهنّ أن هذه «النصاحة» هي أمر جيد لأطفالهنّ ولمكانتهنّ الاجتماعية، على حدّ قول إحداهنّ، مفاخرةً: «متل أبوه المختار»! لكن، ما فات هؤلاء أن هذه التي يسمونها «صحّة» هي مشكلة بحد ذاتها، لا يدركن مخاطرها على أطفالهن ومستقبلهم. هي، بتعبير أدق، ما يصحّ تسميتها «السمنة». فما هي أسبابها عند الأطفال؟ ونتائجها؟ وما الحلول المقترحة تفادياً لهذه الازمة؟
حسابات غذائية خاطئة
هي أزمة؟ مرض؟ مشكلة؟ قد لا تعبّر تلك المصطلحات بدقّة عمّا يمكن أن تعنيه السمنة لدى الأطفال. وقد تكون كلمة كارثة هي الأصدق تعبيراً، خصوصاً في ظل ارتباطها بـ«الموت البطيء». فالسمنة، كما الوباء، ظاهرة انتشرت سريعاً، كالنار في الهشيم، وخصوصاً خلال السنوات القليلة الماضية. أما أسبابها فكثيرة. تلك التي تتمثّل بـ«الأكل الكثير والجهد القليل».
ويأتي النظام الغذائي في مقدمة هذه الأسباب، وخصوصاً الوجبات السريعة التي لم تكن معهودة في السابق، كالهمبرغر، والكريسبي والبيتزا، وهي التي تُعَدّ غنية جداً بالسعرات الحرارية. يُضاف إلى القائمة «المسليات» مثل الشوكولا و«التشيبس» والسكاكر والمشروبات الغازية. أما ما يزيد الطين بلّة، فهو انشغال الوالدين بالعمل خارج المنزل، وهو الأمر الذي يؤدي إلى عدم توافر الطعام المنزلي، واللجوء إلى المطاعم أو وجبات «الدليفري»، وبالتالي عجز الوالدين عن متابعة غذاء أطفالهم وصحتهم.
في مقابل تلك الأسباب المتعلقة بالعادات الغذائية الخاطئة، تأتي الأسباب المتعلقة بقلة الحركة، مثلاً التسمّر أمام شاشة التلفاز أو «الآيباد» والهواتف الذكية. هذه الأدوات التي باتت تأخذ وقت الطفل كاملاً وتشتّت عقله، فتجده مدمناً لها يمضي وقته جالساً دون حراك أو بذل أي مجهود. يضاف إلى ذلك المواد الإعلانية التي تعرضها هذه الوسائل والتي تشكّل عامل إقناع قوي بالنسبة للأطفال، فيتجه الطفل نحوها، مثل إعلانات مشروبات الطاقة والـ«Big Burger» والأطعمة المصنّعة والمعلّبة المليئة بالدهون والمواد الحافظة والملح.
«الدليفري» وراثة؟
بجانب كل هذا وذاك، هناك الأسباب الوراثية المتمثلة بالجينات من جهة وبالعادات التي يتعلمها ويرثها الطفل عن أهله من جهة أخرى. فعندما يعتمد الأهل كثيراً على ما نسميه نحن الأكل «الجاهز»، يتعلم الطفل بدوره هذا الأمر. كل هذا، من دون أن ننسى مفعول التّوتر والضغط النّفسي والمشاكل الاجتماعية التي قد تؤدي إلى الإفراط في الأكل كردّ فعل سلبي على ما يحدث، بجانب التغيرات الداخلية التي تؤثر بمعدل حرق الطاقة.
الفاتورة الصحية المكلفة
لا يمرّ كل هذا من دون نتائج. وغالباً، ما تكون النتائج مكلفة... صحياً، إذ إن السمنة تؤدي في معظم الأحيان إلى ضرب الجسد بأمراضٍ سترافق الطفل في جميع مراحل حياته. فعلى الصعيد الصحي، تؤدي السمنة المفرطة عند الأطفال إلى أمراض مزمنة، مثل السكري وضغط الدم والسرطان وأمراض الكبد وحصى الكلى وأمراض القلب، التي قد تؤدي إلى الجلطة القلبية أحياناً. إضافة إلى ذلك، قد تسبّب اضطرابات في نوم الطفل، وما ينتج من ذلك من فقدان القدرة على التركيز والتراجع الذّهني والمدرسي، كذلك فإنها تؤثر بنموه، وذلك بسبب التأثير الواضح في الهرمونات المسؤولة عن النمو.
لا تتوقف نتائج السمنة الخطيرة عند هذا الحد، فهي أيضاً تقود إلى الإحساس الدائم بثقل الجسم الصغير، وهو ما ينعكس، بالتالي، ثقلاً على المفاصل، حيث إنه من أهم نتائجها التهاب المفاصل وآلامها، الناتج من الوزن والهرمونات وقلّة النشاط. أمّا ثانوياً، فالوزن الزائد له تأثير بالمزاج والحالة النفسية، إضافة إلى تقليله ثقة الطفل بنفسه.
عودة إلى الأكل اللبناني
بعد هذه النتائج «المفرطة» في خطورتها، لا بدّ من التّعرف هنا إلى بعض الحلول لهذه المشكلة المتفشية. أولاً، من المفيد التذكير بأهمية النظام الغذائي المتوازن.
ومن هنا، تجدر الإشارة إلى أن أكلنا اللبناني يمثّل الهرم الغذائي كاملاً، فمكونات هذا التراث غنية بجميع العناصر الغذائية الضرورية للجسم. ويمكن إيراد بعض الأمثلة هنا، منها أن كوباً واحداً من الفول قادر على منح 16 غراماً من الألياف التي يحتاجها الجسم، أي ما يعادل 70% من الحاجات اليومية. وهناك أيضاً الكشك، فهذا المنتج مع احتوائه على عناصر غذائية متنوعة، يقدّم فائدة مميزة لصحة طفلك، إذ إنّه يحتوي على البكتيريا المفيدة للجسم والجهاز الهضمي (قبل غليانه).ولا ننسى هنا التبولة والكبّة والمجدرة واللوبيا والهندباء والملوخية والفتة... فهذه جميعها تشكل مصدر غذاء وطاقة ممتازين ومتكاملين بسعرات حرارية قليلة، مقارنة بالكريسبي والبطاطا المقلية والناغتس.
مع ذلك، حذارِ الإفراط في جميع الحالات. فحتى الطعام الصحي يجب أن يكون باعتدال، خصوصاً في حالة السمنة. فكل شيء زاد على حده نقص. لذا، من هذا المنطلق، ينصح بالتحكم بالحصة المستهلكة. ومن أجل ذلك، يمكن اللجوء إلى استعمال أطباق أصغر حجماً مثلاً وتقليل «لقمشات» الطفل لكي يتمكن من التمتع بوجبة طعام صحية، وبالتالي التقليل من تلك الوجبات. فضلاً عن ذلك كله، علينا اتباع نمط صحي في إعداد الوجبات، حتى لا تفقد قيمها الغذائية. ومن أجل ذلك، لا بدّ من الابتعاد عن القلي واستخدام الزيوت والسمن والزبدة، إذ يفضّل اعتماد الخبز والأرز والباستا السمراء (القمحة الكاملة) والحليب ومشتقاته الخالية الدسم.
وبموازاة ذلك، يمكننا الاستفادة من الخيارات الصحية في الوجبات الخفيفة (سناك) للطفل، مثلاً الفاكهة الطازجة والمجففة والشوفان والمكسرات النيئة والزبيب واللبن بديلاً للشوكولا والمشروبات الغازية والشيبس والعصائر المصنعة الفاقدة القيم الغذائية.
ولتعزيز الروابط الأسرية، يجب العمل على احترام مواعيد الطعام وجلوس جميع أفراد الأسرة لتناول طعام منزلي صحي. كذلك يجب على الأهل تحديد أوقات مخصصة لمشاهدة التلفاز واستخدام الوسائل الإلكترونية، مع السعي إلى زيادة نشاط الطفل من خلال إلحاقه بصفوف اللياقة البدنية والنوادي.
وهنا، لا مانع من اللجوء إلى الرياضات العائلية، مثل تسلق الجبال أو المشي في الطبيعة لزيادة مستوى الطاقة وزيادة قدرة الجسم على حرق السعرات الحرارية. هذه الأولويات تقع على عاتق الأهل. لكن ذلك لا ينفي المسؤوليات التي تتحملها المدارس، إذ يفترض بالأخيرة القيام بحملات توعية للأطفال والأهل في الموضوعات الصحية واتخاذ القرارات المساعدة، مثلاً من خلال تخفيف المنتجات غيرالصحية في المدرسة. ومن منظور آخر، يجب على المدارس والمؤسسات الرسمية والمسؤولين الالتفات إلى الحاجة لإقامة برامج صحية وغذائية، ومثالاً على هذا النوع من البرامج، برنامج «fruit & veggies»، مثلاً، الذي يهدف إلى زيادة استهلاك الخضار والفاكهة. وهنا، المسؤولية الأولى تقع على المدرسة التي تُعَدّ محيطاً أساسياً للتأثير في أفكار الأطفال وصحتهم.
قطعة بيتزا بـ450 وحدة حرارية
غالباً ما يلجأ الأهل إلى إسكات أطفالهم بالأكل، وغالباً ما تكون وجبة البيتزا في مقدمة تلك المغريات، فتسأل الأم طفلها: «أتريد بيتزا؟». لكن، ما لا تدريه تلك الأم أن هذا السؤال سيجلب السمنة لأطفالها، خصوصاً إذا ما عرفنا مثلاً أن كل قطعة بيتزا تحتوي على 450 وحدة حرارية! أضف إلى ذلك، إذا ما تناول الطفل هذه الوجبة مع كوب من المشروبات الغازية ــ بيبسي مثالاً ـ فإنه يضيف إلى وحداته الحرارية 8 ملاعق من السكر!
وفي هذا الإطار، لفتت بعض الدراسات التي أجريت في عدد من المدارس اللبنانية إلى أنّ عدداً لا بأس به من الأطفال يشربون يومياً ما يعادل ليتراً من «البيبسي»، أي ما مقداره 36 ملعقة من السكر. فهل هذه منفعة لطفلك؟
أما بالنسبة إلى الشوكولا أو الشيبس، فإنّ هذه المنتجات تحتوي على الزيت المهدرج الذي لا طريق لإخراجه من الجسم عقب دخوله. فهو قد ينتقل من منطقة إلى أخرى، لكنّه يبني مستعمرات في الجسم ويسكنها إلى الأبد. كل هذا من دون أن نلتفت إلى الكميات الهائلة من الدهون التي يحملها معه أيضاً.
بقلم فاطمة الموسوي – اخصائية تغذية
المصدر: الاخبار
http://al-akhbar.com/node/284157