ينأى المشترع والقضاء المدني بنفسيهما عن كلّ ما له علاقة بالأحوال الشخصيّة للمواطنين والمواطنات تاركين الفصل فيها للمحاكم الدينيّة. عوض الحكم باسم الشعب اللبناني، تصدر الأحكام باسم الطوائف، ويكرّس الغبن باعتباره مُنزلاً من الله.
المرأة هي الأضعف في هذه المنظومة الذكوريّة.
منذ أشهر، سُجنت فاطمة حمزة لأنها رفضت التخلّي عن ابنها الذي حُرمت منه بموجب حكم شرعي. ولولا التحرّكات والضجة الإعلاميّة التي رافقت سجنها، لربّما كانت لا تزال في سجنها حتى اليوم، باعتباره أمراً إلهياً مُنزلاً لا يجوز التصدّي له. وقبلها، حرمت «قوانين الطائفة» جوسلين يحيى من رؤية ولديها، رغم تعرّضهما للتعنيف من والدهما، فقط لأنها تجرأت على طلب الطلاق. والأمر نفسه ينطبق على ريتا شقير المحرومة من رؤية ابنها منذ ثلاثة أشهر، لابتزازها للتراجع عن دعوى إثبات طلاق وتسليم مهر.
ولم ير قاضي الأمور المُستعجلة في النبطية حقاً لامومتها يتجاوز رؤية ابنها آدم (4 سنوات) أكثر من مرة أسبوعياً، يوم السبت، لمدّة 3 ساعات فقط!
فاطمة وجوسلين وريتا واجهن منظومة غسل الدماغ المصبوغة بالقدسيّة، التي تعتبر الرجل رأس المرأة في الكنيسة وقوّاماً عليها في الإسلام. كسرن أصعب المحرّمات، وهن عيّنة عن آلاف النساء اللواتي يُحرمن يومياً من أبسط حقوقهن أمام «عدالة» رجال الدين الذكور، وتُنتهك كرامتهن بموجب قوانين الأحوال الشخصيّة التمييزيّة.
قوانين ظلم المرأة
في تقرير صادر عن منظّمة «هيومن رايتس ووتش» عام 2015، بعنوان «لا حماية ولا مساواة: حقوق المرأة في قوانين الأحوال الشخصيّة اللبنانيّة»، وصفت هذه القوانين القائمة على الديانة بالتمييزيّة ضدّ المرأة، وفي كلّ الطوائف الدينيّة البالغ عددها 18 من دون استثناء. واعتبر التقرير أن هذه القوانين لا تضمن حقوق المرأة الأساسيّة، وتنصب حواجز أمام السيّدات الراغبات في إنهاء زيجات تعيسة أو مسيئة، أو في بدء إجراءات الطلاق، أو ضمان حقوقهن المتعلّقة بالأطفال بعد الطلاق، أو تأمين حقوقهن الماليّة من زوج سابق، فضلاً عن مسائل الارث والملكية وغيرها.
عملياً يوجد في لبنان 15 قانوناً منفصلاً للأحوال الشخصيّة للطوائف المُعترف بها، في ظل غياب قانون مدني يساوي بين الجميع. علماً أنّ المحاكم التي تطبق هذه القوانين مستقلّة ولا تخضع لأي إشراف حكومي، وتصدر أحكامها، التي غالباً ما تكون مشمولة بانتهاكات لحقوق المرأة الإنسانيّة. حلّلت «هيومن رايتس ووتش» نحو 447 حكماً قضائياً صدر عن المحاكم الدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة في قضايا الطلاق والحضانة والنفقة الزوجيّة ونفقة الأطفال. ووجدت أنّ «مراجعة 243 حكماً قضائياً في ملفات طلاق تثبت التمييز المُمنهج ضدّ المرأة، ويشتمل على قصور في توصلها إلى الطلاق، والأعباء الماليّة المترتبة على إجراءات المحاكم، والتي تنصب أمامها حواجز عند إنهاء الزواج، تضاف إلى عدم الاعتراف بالحضانة المشتركة ومنحها للأم حتى سنّ معيّنة، مع بقاء الأب الولي الشرعي على الأولاد، والتي تنتقل إلى أقاربه من الذكور في حال وفاته». كما أن مراجعة 101 قرار يبيّن أن «المحاكم نادراً ما كانت تنظر في سلوك الأب عند الفصل في قضايا الحضانة، بينما كانت تدقّق في سلوك المرأة بطريق تعكس تحيزات أو تنميطات إجتماعيّة، وهو ما رفع احتمالات إسقاط الحضانة عن المرأة أكثر منها عن الأب»
تشريع الإضطهاد لدى المحاكم الاسلامية
تشكّل قضية الحضانة لدى الطائفة الشيعية التعسّف الأكبر في قضايا الاحوال الشخصية الطائفية، اذ تحدد المحكمة الشرعية سن الحضانة للأم بسنتين فقط للذكر و7 سنوات للأنثى.
دعاوى الحضانة يتقدّم فيها الأب أو الأم من أجل حقّ حضانة الأولاد في حال وصل الخلاف بينهما إلى مرحلة الانفصال. يحدَّد سن حضانة الأم للطفل لدى الطائفة السنية بـ 12 عاماً للذكر والأُنثى. هذه السنّ من حق الأم فقط، فإذا انتقلت الحضانة الى أم الأم بسبب وفاة الأم، تكون سنّ الحضانة لأهل الأم 7 سنوات للذكر و9 سنوات للأنثى. أمّا عند طائفة الموحدين الدروز، فتُحدد السن بـ7 سنوات للذكر و 9 سنوات للانثى.
تفقد المرأة حضانة أطفالها لدى الطائفة الشيعية إذا كانت على غير دين الأب أو في حال تزوّجت بمحرم الصغير أو بغير محرم. كذلك، تسقط حضانة الأم لدى الطائفة السنية بإتمام الطفل 5 سنوات في حال كانت الأم على غير دين الأب، أو إذا تزوجت من غير محرم الصغير. بالنسبة إلى الطائفة الدرزية، تسقط حق الحضانة للأم في حال تزوجت الأم من غير محرم الصغير أيضاً.
تجدر الإشارة الى أن الحضانة تختلف عن مفهوم «الولاية». الأخير يعني الولاية على النفس (حق التربية والتأديب والتعليم والتزويج والحفظ)، فضلاً عن الولاية على المال (العناية بمال القاصر/ة وحفظ إدارته وتدخل فيها الوصاية والقيمومة). عند الطوائف الإسلامية الثلاث، لا ولاية للأم على أولادها.
في حال الطلاق، يحقّ للزوج لدى الطائفتين السنية والشيعية إرجاع زوجته لعصمته من دون رضاها أو علمها أثناء عدّة الطلاق الرجعي. والزوج غير مُلزم بتسجيل هذه الرجعة أمام المحكمة، ويحق للزوجة لدى الطائفة السنية فقط مراجعة القضاء وطلب تطليقها من زوجها. وتتفرّد الطائفة السنية بالطلاق الخلعي الذي يحصل بتراضي الزوجين حين تتنازل الزوجة عن حقوقها في المهر ليوقّع الرجل الطلاق ويُشترط موافقته (الزوج(
بحسب قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، يحق للزوج أن يتقدّم بدعوى المُساكنة في حال غادرت الزوجة المنزل الزوجي بدون إذنه أو من دون عذر مشروع. وفي حال رفضت الزوجة تنفيذ حكم يلزمها بمساكنة الزوج، تُعتبر «ناشزاً» وبالتالي تسقط عنها النفقة. ولا يحق للزوجة ترك المنزل الزوجي، إلا إذا أصبحت المعيشة المشتركة بين الزوجين مُستحيلة أو في حال كان بقاؤها في المنزل يُعرّض حياتها للخطر أو حياة أولادها.
بإمكان القاضي الشرعي لدى الطائفة السنية، أن يأذن بزواج القاصر الذي أتمّت الـ 12 سنة والقاصرة التي أتمّت الـ 9 سنوات في حال بلوغها وبعد إذن ولي الأمر. أما معيار التزويج لدى الطائفة الشيعية، فهو إثبات البلوغ الشرعي ويُتوقع بلوغ الذكر الـ15 سنة والأنثى الـ 9 سنوات. بالنسبة إلى طائفة الموحدين الدروز، بإمكان قاضي المذهب أو شيخ العقل أن يأذن بزواج القاصر الذي أكمل عمر الـ 16 سنة والقاصرة التي أكملت الـ15 سنة بعد إذن وليّها.
تُظهر دراسة «التزويج المُبكر للفتيات: انتهاك للطفولة وتناسل الفقر» المُعدة عام 2015 من قبل الأستاذ الجامعي والباحث الإجتماعي زهير حطب بالتعاون مع «التجمّع النسائي الديموقراطي اللبناني»، أن أكثر من 90% من حالات تزويج القاصرات حصلت بـ «سهولة تامة» وبـ «إجراءات بسيطة» في المحاكم الشرعية في لبنان. يلفت حطب في دراسته الى «الصمت المُتمادي للمؤسسات الدينية تجاه تزويج القاصرات»، مُشيراً الى أن التزويج المُبكر يُجسّد حجم انتشار ثقافة إجتماعية وإيديولوجية ذات بعد ديني بين الناس، «وبموجب هذه الثقافة يُفضّل الرجال اختيار قريناتهم الصغيرات في السن وبمواصفات تُسهّل عليهم بسط سلطتهم باسم الدين». اللافت هو ما يُشير اليه حطب، بأن التزويج المُبكر للفتيات «يكشف عن المفهوم السائد للزواج الذي يستبعد عملياً فكرة التواصل بين زوجين ناضجين يتفاعلان عاطفياً واجتماعياً، انطلاقاً من بنية الزواج بين طرفين ينتمي أحدهما الى مرحلة الرشد واكتمال النمو فيما ينتمي الطرف الثاني، أي الزوجة، الى مرحلة الطفولة ونقصان النضج»
يقول مصدر قضائي في هذا الصدد، إنّ موضوع حماية القاصرات من الزواج المُبكر في لبنان هو موضوع شائك «نظراً الى طبيعة النظام الطائفي في لبنان والاختلاف الكبير في تحديد سن الزواج بين الطوائف والمذاهب وعدم وجود رقابة موحدة من أي سلطة على هذا الأمر»
تمييز جندري لدى المحاكم المسيحية
يصبّ القسم الأكبر من المعضلات التي تواجهها المرأة في المحاكم المسيحية في طول فترة حصولها على بطلان الزواج الذي تنطبق شروطه على الطرفين والحصول على النفقة. أما حرمانها من الأطفال، فمحدد في الحالات المنصوص عليها في القانون. وينطوي موضوع منحها الحضانة على شروط تمييزيّة لا تُطبق على الرجل مثل اشتراط «حسن السلوك» و«عدم الزواج». وكذلك، تعاني المرأة الخاضعة لقوانين الاحوال الشخصية المسيحية من تشريع زواج القاصرات واجبارها على الخضوع للرجل.
تختلف سنّ الزواج بين الطوائف المسيحيّة، إلا أنّ القاسم المشترك بينها هو تشريع زواج القاصرات؛ إذ تحدّده الطوائف الكاثوليكيّة بـ16 سنة للذكر و14 سنة للأنثى، فيما تحدّده طائفة الأرمن الأرثوذكس بـ 18 سنة للذكر و15 سنة للأنثى مع إمكانيّة الحصول على إذن خاصّ من المرجع الروحي لسبب مهمّ جداً يتيح للذكر الزواج في سن الـ16 والأنثى في سن الـ14 سنة. في المقابل، حدّدت طائفة الروم الأرثوذكس سن الزواج للذكر والأنثى بـ18 سنة، على أن يسمح بحالات خاصّة بزواج الذكر في سن 17 عاماً والأنثى في سن الـ15 عاماً بعد موافقة كلّ من ولي الأمر وراعي الأبرشية. أمّا طائفتا السريان الأرثوذكس والأشوريين، فقد سمحتا بالزواج للذكر في سن الـ18 والأنثى في سن الـ14.
التمييز في المحاكم المسيحية يطاول حقوق الزوجة وواجباتها، فطائفة الأرمن الأرثوذكس تُلزم الزوجة باتخاذ شهرة زوجها وعدم السماح لها بالعمل من دون موافقته، على أن يعود حقّ الولاية (أي السلطة الوالديّة الممنوحة للأهل على القاصر حتى بلوغه سنّ الرشد وتشمل إدارة الأموال والتربية) في كلّ الطوائف المسيحيّة، باستثناء طائفة الأرمن الأرثوذكس، إلى الأب بمفرده، إلا في حال منحها للأم أو سقطت عنه ومُنحت للمرأة مع اشتراط تمتعها بـ«أخلاق حسنة». أمّا بالنسبة للحضانة، فقد اخضعت كلّ الطوائف المسيحيّة الام لمجموعة من الشروط للحصول على هذا الحقّ الطبيعي المكرّس لها، مثل أن لا تعقد زواجاً جديداً، وأن لا تكون «سيئة السلوك»، فيما حصرت الحضانة لدى الطوائف الكاثوليكيّة في سنّ الرضاعة أي سنتين، على أن يكون للمحكمة الروحيّة سلطة استنسابيّة في تقرير هوية الحاضن وفقاً لما تقتضيه مصلحة الطفل. في المقابل حصرتها طائفة الأرثوذكس بسن الـ14 عاماً للذكر و15 عاماً للأنثى، وحدّدتها الطائفة الإنجيليّة بسن الـ12 للذكر والأنثى، فيما حدّدت بسن الـ7 للذكر والـ9 للأنثى لدى طوائف الأرمن الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس والآشوريين.
تضاف إلى ذلك، مجموعة من المواد التمييزيّة بحق المرأة، مثل إجبارها على مساكنة زوجها والعودة إلى المنزل الزوجي، تحت طائلة حرمانها من النفقة والحضانة. ولدى طائفة السريان الأرثوذكس، تُحكم بدفع نفقة شهريّة للزوج توازي راتب عاملة في الخدمة المنزليّة في حالة «النشوز»، في مقابل حقّها برفع دعوى فسخ زواج بعد مضي خمس سنوات على ترك الزوج للمنزل، إضافة إلى تحديد مدّة العدّة بعشرة أشهر للمرأة و40 يوماً للرجل لدى السريان الأرثوذكس، واعتماد مدّة متساوية لدى الطوائف الأخرى (الطوائف الكاثوليكيّة لا تفرض العدّة)، وعدم اعتبار المحاكم الكاثوليكيّة الإساءة الزوجيّة سبباً كافياً لبطلان الزواج، مقابل إثبات المرأة أمام المحاكم الأرثوذكسية والإنجيليّة أن العنف يوازي محاولة القتل لإنهاء الزواج.
بقلم فيفيان عقيقي و هديل فرفور
المصدر: الأخبار
http://al-akhbar.com/node/273731