مع ساعات الفجر الاولى يهرول الطفل السوري «قصي» من خيمته في سهل الدلهمية، في قضاء زحلة، ليلتحق بعمله المنتظم في أحد حقول سهل البقاع.
اسوأ ما في حكاية «قصي» الذي لم يبلغ الثامنة من عمره، أن أحداً من محيطه لا يستغرب عمله المبكر والشاق.
الظاهرة، بالنسبة لهم، «طبيعية»، وليس هناك من يكافحها بالشكل المطلوب، فيما تحولت ملاعب مئات من الأطفال الى حقول زراعية أدواتها ثمار الخضار وأقفاص ومعاول يمضون نهاراتهم في قطافها ونقلها وتوضيبها وترتيبها دون ان يرف جفن للأهل أو المشغلين. بل يمكن اختصار الكارثة الكبرى بما تقدم عليه عائلات هؤلاء العمال الصغار حيث تفرض شروطا على «الشاويش» الزراعي تحتم عليه الاستعانة باطفالهم.
يعتبر البعض أن عمل الأطفال السوريين ومعهم ابناء العشائر العربية، «تاريخية ومزمنة» حسب ما يقول «شاويش» إحدى الورش الزراعية. يقول الرجل الذي يدبر العمال صغاراً وكباراً للعمل في الزراعة أن «أكثر من 60 %من عمال الحقول والزراعة تتراوح اعمارهم ما بين 7 الى 12 سنة».
تقتصر مكافحة عمالة الاطفال واستخدامهم في الاعمال الزراعية على بعض المنشورات والنصائح الشفهية. لم يصدف أن واجه اي شاويش او أحد من أهالي الأطفال، ما يمكن ان يكون رادعا لهم، فالعقاب غائب كما المراقبة، والمكافحة في القوانين الموضوعة في أدراج الوزارات، وبالتالي العمالة مشرعة على مصراعيها، ومخاطرها.
هنا ينوء «قصي» تحت أحماله. وجع الظهر صار رفيق طفولته من أكياس البطاطا وصناديق الخضار والإنطواء لساعات في الحقول بطريقة لا يعرف صحتها من ضررها بالنسبة لجسده الصغير. أما العمل بالنسبة لعائلته فهو «معين وضروري للعيش» من جهة، وسوف يجعل منه «رجلاً» كما يقولون من جهة ثانية.
جهود المنظمات الدولية لمكافحة عمالة الاطفال السوريين والحد منها لا زالت دون المرتجى المطلوب، في ظل إصرار الاهل على تشغيل كامل افراد العائلة، ومن ضمنهم الاطفال، وطبعاً نظراً للتقديمات الشحيحة التي لا تغني عن جوع وعوز. لا يجد الشاويش حرجاً في هذا الإصرار الذي قد يعود عليه أيضاً بالفائدة المالية: إذ لا تتعدى أجرة الطفل الخمسة آلاف ليرة أو أحيانا قد ينال صندوقة خضار بدلاً عن أتعابه. وهو يفرض بدل يوم عمل منخفض للطفل تختلف عن أجرة العمال الاخرين، وعندها ينسحب الرضا والفائدة على صاحب الحقل الزراعي الذي يجد في عمالة الطفل طريقة لتخفيض أجرة عمال حقله الزراعي.
تكفي جولة في طول سهل البقاع وعرضه، اليوم ومع تدفق مواسم الخير للوقوف على غزارة عمالة الاطفال ووضوحها.
الأجساد الصغيرة والنحيلة الغارقة بين الشتول ووراء تراكتورات الحراثة تنادي على العابرين. هنا يتسابق الصغار مع اقرانهم للعمل في هذه الحقول التي ستكون موعودة مع بدء موسم قلع البطاطا البقاعية حسب توصيف أحد مزارعي البقاع الذي يؤكد لـ «السفير» أن أكثر من 65% من عمال قلع البطاطا هم من الاطفال السوريين، ومن بينهم من لم يكمل السبع سنوات. على الطريق في زحلة «يتسمر» احد الاطفال السوريين بالقرب من بسطته لبيع رؤوس البطيخ. بعض البطيخ يفوق حجمها حجم جسده الضعيف الذي يكاد يختفي بين بضاعته المدحرجة.
إيمان، مثلاً، فتاة لم تكمل التسع سنوات من عمرها ومع ذلك تمتلك «خبرة» في العمل الزراعي تمتد على عامين ونصف العام «بلشت إشتغل كنت أصغر من سبع سنين». يومها أرسلها والدها الى حقل زراعة الملفوف والخس في برالياس «شعرت وقتها بالسعادة والفرح، وكأنني ذاهبة إلى مدينة الملاهي». يومها لم تكن تعرف ماذا يعني العمل لساعات طويلة مقابل أجر زهيد لا ينوبها منه شيئا.
توصف جمعيات دولية عدة عمل الأطفال بالزراعة بـ «أسوأ أنواع العمالة التي ترتد بشكل سلبي على حياة الطفل النفسية والجسدية والذهنية»، في مقابل عجز معترف به في مكافحته. يعود العجز إلى الحال الاقتصادية للعائلات وإلى مفاهيم راسخة عند الاهل الذين لا يجدون مانعا او ضيرا في تشغيل أطفالهم الذين لا يملكون القدرة على الإعتراض. ولكن يبقى بقاء نحو 80 في المئة من الأطفال اللاجئين خارج المدارس وتسرب 70 في المئة ممن يجدون مكانا لهم في مدارس لبنان، سبباً رئيسياً في كل هذا الإستغلال لصغار اللاجئين والفقراء من حولهم.
سامر الحسيني