ترغب شامبا أن تعمل في بنك عندما تكبر، وهي تدرس التجارة في مدرستها، وقد أظهرت براعة في هذا المجال. إلا أنها قلقة من أنها لن تتمكن من تحقيق حلمها. فقبل أقل من سنة، تعرض والدها لحادث أقعده عن عمله، وهو المعيل الرئيسي للأسرة، مما أدى إلى قلب حياة شامبا رأساً على عقب.
وبينما كانت الأسرة تحت وطأة هذه الكارثة، ذهبت شامبا لتسكن مع عمتها التي رغبت بإيجاد حل لمساعدة العائلة. واقترحت العمة تزويج شامبا رغم أنها لم تتجاوز الخامسة عشرة من العمر.
وأوضحت شامبا وهي تغالب الدموع، "ليس بوسع أبي وأمي تحمل نفقات تعليمي، لذا فقد فكروا بأن تخفيض عدد أفراد الأسرة سيساعد وستصبح الأمور أسهل".
إلا أن شامبا لم ترضخ لهذا الوضع، وظلت عازمة على إتمام تعليمها، وطلبت الدعم من ’نادي اليافعات‘ المحلي، وهو مجموعة مؤلفة من شابات ناشطات ظلت تطالب بتحقيق مساءلة أكبر للحكومة وإنهاء زواج الأطفال. وما كان على شامبا إلا أن تطلب المساعدة، وحينها سارعت المجموعة للعمل.
أتت فرقة مؤلفة من سبع يافعات إلى كوخ الأسرة المصنوع من الخيزران والمؤلف من غرفتين، وبدأت اليافعات بالتحدث مع والدي شامبا حول مخاطر الزواج المبكر. وأوضحن لهما بأن الحمل المبكر مرتبط بمعدلات أعلى للوفيات بين الأمهات والأطفال، وأن شامبا ستضطر لإمضاء أيامها في إنجاز الأعمال المنزلية ولن تتمكن من إتمام تعليمها. وحاججن بأنه إذا تمكنت شامبا من إتمام دراستها، فستكون في وضع أفضل يمكنها من كسب المال ودعم أسرتها في المستقبل. وأخيراً ذكّرا والدا شامبا بأن القانون في بنغلاديش يمنع الزواج قبل سن الثامنة عشرة، وأن السلطات تفرض تنفيذ هذا القانون – وتعتقد شامبا بأن هذه الحجة هي ما أقنع والديها.
وفي نهاية المطاف، لم تنجح خطة عمتها. ومع ذلك، أثارت هذه التجربة الاضطراب في روح شامبا، وقالت "لغاية الآن، يغمرني الخوف عندما أتذكر تلك الأيام".
التزم والدا شامبا بدعمها حتى السنة الدراسية الأخيرة كي تتمكن من الحصول على شهادة الدراسة الثانوية، والتي تُمنح عند إنهاء الصف العاشر. بيد أنهما يقولان إنهما لن يتمكنا من دعمها للدراسة بعد تلك المرحلة.
ورغم أن الدراسة مجانية في مرحلة الدراسة الأساسية في بنغلاديش، إلا أن إتمام الدراسة الثانوية يتطلب عدة تكاليف غير رسمية. فالدروس الخصوصية قبل الدوام المدرسي أو بعده منتشرة ويعتبرها معظم الطلاب أمراً أسياسياً للنجاح. كما يعتمد الطلاب، إلى جانب الكتب المدرسية، على كتب دراسية تكميلية لا توفرها المدارس. وبالنسبة للناس الأشد فقراً، يعني الالتحاق بالمدارس خسارة الدخل الذي قد يأتي من العمل الذي يمكن القيام به بدلاً من الدراسة.
وتتمنى شامبا أن يتاح لها خيار العمل بدلاً من أن تتزوج، وتقول "لو كنت ولداً ما كان أهلي سيفكرون في تزويجي ... ولكان بوسعي أن أبدأ عملاً ما وأن أساعد أسرتي". ولكن لا تتوفر خيارات كثيرة أمام البنات : "فليس بوسعهن العمل سوى كخادمات في البيوت".
بعيدا عن النفقات المرتبطة بالمدرسة الثانوية، وبالنسبة للكثير من الأطفال في المناطق الريفية النائية، يشكل البعد عن المدرسة عقبة أمام الحضور. ومع وجود مدارس ثانوية أقل من المدارس الابتدائية، فمن الغالب ان يُضطر المراهقون الى السفر إلى خارج قُراهم ومجتمعاتهم المحلية للوصول إلى المدرسة. ويفضل بعض الآباء عدم المخاطرة بإرسال بناتهم إلى المدرسة، لأنهم يقلقون بشأن المضايقات أثناء التنقل.
الفقر ليس مسألة مال وحسب
في عام 2012، كافح أكثر من 900 مليون شخص من أجل البقاء في هذا العالم معتادين على دخل يقل عن 1.90 دولار أمريكي في اليوم –وهو خط الفقر المدقع العالمي- فيما ظل أكثر من 3 بلايين شخص عرضة للفقر يعيشون على أقل من 5 دولارات في اليوم. يعيش هؤلاء، شأنهم شأن شامبا، على شفا هوّة من الفقر المدقع لا يفصلهم عن السقوط فيها سوى انتكاسة مرضية واحدة أو موسم جفاف أو أية محنة أخرى.
بالنسبة للأطفال والمراهقين، لا يتوقف الفقر عند حدود المال، فهم يعيشونه عبر أشكال الحرمان الذي يطال أثره أوجهاً متعددة من حياتهم – منها فرصهم في الالتحاق بالمدرسة والحصول على التغذية الجيدة والرعاية الصحية وماء الشرب الآمن وخدمات الصرف الصحي.
تُنهي أوجه الحرمان هذه مرحلة الطفولة مبكراً جداً وتسرق من ملايين الأطفال أشياءهم الحقيقية التي تحدد معنى أن يكون الإنسان طفلاً: كاللعب والضحك والنمو والتعلم. تشكل هذه الفرص القاعدة التي يبني الأطفال عليها مستقبلهم – فبالنسبة للأطفال الذين تُتاح لهم إمكانية التمتع بهذه الفرص، يبدو العالم مليئاً أمامهم بالاحتمالات. أما بالنسبة لأطفال مثل عريف الإسلام، الذي ترك المدرسة لأنه يتعين عليه أن يعمل كي يحصل على قوت يومه، فإن حتى مجرد الحلم أمر بعيد المنال.
لم تُتح لعريف فرصة التفكير فيما يريد أن يصبح عندما يكبر؛ فالصبي الذي بالكاد بلغ الثانية عشرة من العمر، يعمل منذ زمن أطول مما يمكن لعقله أن يتذكر. بدأ العمل في مصائد السمك عندما كان في مستوى الصف الأول الابتدائي، ومن ثم بدأ يعمل "كمتدرب" في معامل الطوب –وهو عمل غير مدفوع الأجر لكنه يقدم للعامل عادة وجبة طعام. واليوم، يشتغل عريف كعامل نظامي في معمل طوب إلى جانب الكثير من أفراد عائلته. وفي الموسم الذي يتوقف فيه العمل، تقترض والدته المال من صاحب المعمل كي تتدبر أمور الحياة بقية السنة. وفي الموسم التالي، تعمل الأسرة بأكملها كي تسدد القرض.
التحق عريف الإسلام، الذي فاتته في الصغر فرصة الذهاب إلى المدرسة، ببرنامج التعليم كفرصة ثانية بدوام مسائي. يقدم البرنامج له معاشاً صغيراً، لكن هذا المعاش لا يعادل مبلغ الدولارات الثلاثة الذي يكسبه يومياً في المعمل. وعندما يزداد ضغط العمل في موسم الطلب على الطوب، لا يواظب عارف على الحضور إلى المدرسة.
بما أن الأطفال يعيشون تجربة الفقر بأشكال متعددة، فإن مجرد تأمين الخدمات –كالرعاية الصحية والتعليم- لا يكفي لإعطاء كل منهم فرصة عادلة. حتى لو كان التعليم مجانياً، فقد لا يكون طفل مثل شامبا قادراً على تحمل تكاليف القدوم إلى المدرسة أو شراء مستلزمات الدراسة – أو قد لا يكون بمقدوره اقتصادياً، كما في حالة عريف الإسلام، عند التغيب عن العمل ليوم واحد. لذلك، فإن ما يحتاج إليه الأطفال الأشد حرماناً هو الوسيلة التي تمكنهم من الحصول على هذه الخدمات.
تعد برامج الحماية الاجتماعية، كالتحويلات النقدية، واحدة من طرق التخفيف من هشاشة أوضاع العائلات أمام مخاطر الفقر والحرمان والتغلب على بعض العقبات التي تحول دون استفادة الأطفال من الخدمات المتاحة لهم. تؤمِّن التحويلات النقدية المستوى الأدنى من الدخل الذي يسهم في حماية الأسر الأشد فقراً وضعفاً من مخاطر العوز الشديد. كما أنها توفر سبيلاً للخروج من دائرة الفقر وفتح الطريق أمام الحصول على الخدمات –كالتعليم- التي لها أهمية حاسمة في بناء مستقبل الأطفال. ويشير أحد التقديرات بأن مبادرات الحماية الاجتماعية تحول دون وقوع نحو 150 مليون طفل فريسة للفقر. وبمقدور التحويلات النقدية أيضاً أن تتعامل مع بعض العوامل التي تحول دون التحاق الأطفال بالدراسة أو التي تجبرهم على التسرب منها.
كسر الحلقة المفرغة
فضل برنامج التحويلات النقدية، عادت جوما أختر، ابنة الرابعة عشرة، إلى المدرسة وتفوقت على زميلاتها في الصف. لكن بلوغ هذه المرحلة لم يكن أمراً هيناً.
كانت جوما قد تركت المدرسة وهي في الثامنة من عمرها للعمل كخادمة في منزل أساء معاملتها، حيث أمضت فيه ثلاثة أعوام دون أن يُدفع لها أي مال مقابل عملها أو أن يُسمح لها بالذهاب إلى المدرسة. لقد عملت مقابل تنشئتها وعلى وعد بأن يقوم رب عملها بدفع مهرها عندما يحين موعد زواجها.
في النهاية، سمحت أمها لها بالعودة إلى المدرسة. لكنها كانت تتوجه مباشرة للعمل كل يوم بعد انتهاء دوام المدرسة متنقلة من باب إلى آخر تتسول الأرز. وذات يوم وبينما كانت وأمها تأكلان الأرز عند مدخل كوخهما المسقوف بالصفيح، أوضحت جوما لأمها أن تكاليف الدراسة ستزيد مع ترفعها من صف لآخر، فسوف تحتاج إلى دروس خاصة وأدلة وكراسات لا تزودها بها المدرسة. لذا، قررت أمها أنه لا طائل من وراء مواصلة ذهابها إلى المدرسة، بل قامت باصطحابها معها إلى العمل. ومن خلال العمل بدوام كامل في توريد الماء للأعمال التجارية المحلية، حققت جوما دخلاً بلغت قيمته تقريباً 7 دولارات في الشهر.
وهناك عثرت إحدى متطوعات الخدمة المحلية، واسمها نازما، على جوما. تقول جوما "كانوا يبحثون عن أطفال مثلنا". ودعت نازما جوما وأمها إلى بضعة لقاءات لتقييم احتياجات الأسرة نتج عنها تسجيلهما في برنامج التحويلات النقدية شريطة انتظام دوما بالذهاب إلى المدرسة. والآن وبما أن أم جوما تتلقى دفعتين سنوياً بقيمة تبلغ 150 دولار أمريكي تقريباً، عادت جوما إلى المدرسة وهي الآن في الصف السابع.
ولم تعد جوما تُعرف في الحي بالفتاة التي تنقل الماء، بل باتت تُعرف ببرنامجها المعتاد الجديد. ففي كل مساء وبعد انتهاء الصلاة، تجلب جوما طاولة بلاستيكية قابلة للطي وكرسياً وتجلس بجوار مكب النفايات عند منعطف الطريق تحت شعاع عمود الإنارة. وبعقليتها المدبرة، تستعمل جوما ملصقات حملات سياسية من مخلفات الانتخابات الأخيرة كورق لكتابة واجباتها المدرسية على ظهرها.
اليوم، عندما تتخيل جوما المستقبل، لا يكون الزواج جزءاً من الصورة. بل إنها تعتقد أنه ينبغي على الفتيات الانتظار حتى يبلغن الثانية والعشرين على الأقل، أي بزيادة سنوات عن الحد الأدنى للسن القانوني للزواج وهو 18 سنة. تحلم جوما، بالمقابل، بأن تصبح طبيبة ذات يوم وتقول "أريد أن أقدم الرعاية للجميع".
المصدر: اليونيسف